مؤتمر التنمية الاجتماعية بين المزايا والاستدامة (2015)

كلمة الجمعية الاقتصادية العمانية

في حفل افتتاح المؤتمر الثامن للجمعية

التنمية الاجتماعية بين المزايا والاستدامة

مسقط ، سلطنة عمان ، الأحد 18 اكتوبر 2015 م 

يلقيها

الشيخ محمد بن عبدالله بن حمد الحارثي

رئيس مجلس إدارة الجمعية الاقتصادية العمانية

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين

أصحاب السمو والمعالي والمكرمين والسعادة

الإخوة والأخوات رؤساء وأعضاء الجمعيات الاقتصادية الخليجية وممثلو الجمعيات المهنية العمانية والإعلام وممثلو الجهات الراعية.

الأخوة والأخوات الضيوف والحضور الكرام

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

تفاعلا مع التطورات الاجتماعية، وخاصة حراك  سنة 2011م، ونظرا للدور الهام للسياسات الاجتماعية  في عملية التنمية الوطنية كأداة لتعزيز رفاهية المواطن من جميع النواحي، ودورها في توفير فرص العمل وفي الحد من الفقر ، وتعزيز النمو الاقتصادي والاجتماعي، والحفاظ على الاستقرار والأمن الاجتماعي ، أعلن صاحب الجلالة السلطان قابوس في خطابه السنوي أمام مجلس عمان في العام 2011م عن أهمية التركيز على التنمية الاجتماعية عند صياغة ووضع الخطط المستقبلية للبلاد.

وعلى أثر ذلك، قام المجلس الأعلى للتخطيط بصياغة رؤية للتنمية الاجتماعية تقوم على أربعة أهداف أساسية هي:

  1. توليد فرص عمل للمواطنين من خلال رفع مخرجات التعليم والتدريب،
  2. الاهتمام بالتنمية البشرية وذلك عن طريق توسيع الخدمات الصحية والمجتمعية (مثل الأنشطة الرياضية والشبابية والثقافية وتطوير المدن والمجتمعات المحلية) والإسكان وتطوير قطاع المواصلات،
  3. توفير الحماية الاجتماعية من خلال التأمينات الاجتماعية وصناديق التقاعد وشبكة الحماية الاجتماعية،
  4. وضع مسار واضح للتنفيذ والتقييم والمتابعة وذلك من خلال تطوير وتحديث الأطر التشريعية والمؤسسية ومن خلال توفير معلومات وبيانات دقيقة وشاملة ومحددة وقابلة للقياس.

وانطلاقا من الأهداف الأربعة أعلاه نطرح – على سبيل الاستئناس – مجموعة أسئلة خاصة اننا نلاحظ انه منذ الخطة الخمسية الاولى نتحدث عن نفس الأهداف ونعد استراتيجيات ونصرف المليارات ومع الاقرار بالتحسن النسبي لمستوى الرفاه المعيشي للمواطنين إلا أنه في المقابل لم تتغير  لا التركيبة الاقتصادية ولا منهجية التخطيط ولا الاداء الحكومي ، يتساءل الكثيرون عن مفهوم  التنمية الاجتماعية وعن المشروع المجتمعي المنشود وملامحه الاجتماعية والاقتصادية والثقافية ، وعن ماهية العلاقة بين التنمية “الاجتماعية” و”التنمية البشرية”؟ وعن أوجه الاستدامة والاندماجية في هذا النوع من التنمية؟ وعليه نتساءل:

  • هل المشكلة في  تحديد الاهداف وما هو الجديد في هذه الاهداف ، ألم تتبني الحكومة أهداف مشابهة لهذه منذ الخطة الخمسية الاولى ؟ .
  • هل إقرار توليد فرص عمل للمواطنين وتنمية الموارد البشرية وتوفير الحماية الاجتماعية والتقييم والمتابعة هي غاية التنمية الاجتماعية؟
  • هل هذه الاهداف كفيلة بتحقيق “الانطلاق الاقتصادي” كما يسميها المجلس الأعلى للتخطيط؟  وهي ذات أهداف الانطلاق المشار اليها في الرؤية 2020. وهل يمكنها الحد من إعادة تدوير ثروات النفط والغاز وتحقيق فك الارتباط بالاقتصاد النفطي الريعي ؟
  • ما هي السياسات التي يمكن العمل بها لتحقيق تنمية اجتماعية مستدامة؟ ما المقصود بالتنمية الاجتماعية الفعلية؟
  • وما هي المؤشرات الكمية التي يمكن قياس نتائجها على المجتمع ومواكبتها بما يفيد في إنجاز المشروع المجتمعي المنشود؟

خبير التنافسية العالمي مايكل بورترز  من جامعة هارفارد الذي زار السلطنة منذ عشر سنين وتحدث في مجلس الوزراء وفي جامعة السلطان قابوس عن تأثير التنافسية والتنمية الاقتصادية على سلطنة عمان ، قدم عرضا قيما ومقترحات محددة لم تتعدى صداها قاعات المحاضرة  ، أعلن قبل سنتين عن مؤشر جديد يراهن من خلاله على زوال مؤشرات القياس المادية واستبدالها بمؤشرات تقيس التطور الاجتماعي يستخدم إلى جانب المؤشرات الأخرى لقياس التنمية واطلق عليه اسم ” مؤشر التطور الاجتماعي ”  Social Progress IndexSPI ، وهو مؤشر يقوم على قياس 52 مؤشراً فرعياً في المجتمعات وتقع ضمن 3 مجالات:

  1. الحاجات الأساسية للإنسان: كصحة الغذاء، والماء، والهواء، فضلاً عن السلامة الشخصية.
  2. أساسيات الرفاهية: مؤشرات تقيس مستويات التعليم الأساسي، والصحة، وتوافر وسائل الاتصالات، والاستدامة البيئية والاقتصادية.
  3. الفرص: وتتضمن الحقوق والحريات الشخصية، والعدالة الاجتماعية، والاندماج الاجتماعي، بالإضافة إلى توافر فرص متابعة التعليم العالي.


وقد أشارت نتائج التقرير الثاني للمؤشر عن تبوء النرويج  المرتبة الأولى ضمن 161 دولة شملها التقرير الذي شمل 50 دولة فقط في تقريره الاول ، وحصلت دولة الإمارات على المرتبة  الأولى عربيا والـ 39 عالمياً ضمن نتائج التقرير بينما لم يتم تصنيف السلطنة و 27 دولة اخرى من ضمن ال 161 دولة الواردة في المؤشر بسب عدم توفر البيانات .

وفق دراسة “عمان التي نريد”  التي نشرتها الجمعية الاقتصادية العمانية سنة 2013م – الدليل الوطني للتنمية – اتضح أن القطاع النفطي يهيمن على هيكلية الانتاج وحوالي  85% من الناتج المحلي الاجمالي يعتمد بشكل مباشر او غير مباشر  على أداء القطاع النفطي ويشمل ذلك قطاع الخدمات الذي يعتمد على القطاع النفطي ،  كما ان مساهمة الايرادات النفطية لإجمالي الايرادات الحكومية زادت  في الخطة الخمسية  الثامنة عما كانت عليه مع بداية الخطة الخمسية الاولى  وهذا ما كنا نحذر من أنه سيؤثر وبشكل مباشر في حالة انخفاض الايرادات النفطية على مقدرة الحكومة على تمويل الانفاق على المشاريع التنموية والنفقات الجارية المتزايدة بوتيرة متسارعة.

لقد مثلت نسبة الايرادات الحكومية من الضرائب والايرادات الاخرى المختلفة غير النفطية  الى حجم  ايرادات النفط والغاز خلال النصف الاول من هذه  السنة حوالي 28% وحوالي 22,5%  من اجمالي الايرادات ، بينما بلغت حصة الدفاع والامن في سنة 2014 اكثر من 200% من حجم المصروفات الانمائية لكافة الوزارات المدنية ، كما بلغت اكثر من 52% من صافي ايرادات النفط خلال النصف الاول من هذه السنة.

مما لاشك فيه أن الآمن  يعتبر القيمة الاساسية في الحياة  ووفق النظريات الاقتصادية هنالك أنواع مختلفة من الامن فهنالك الامن الاقتصادي والاجتماعي والانساني بجانب العسكري وَيدْرس الامن الانساني علاقة التنمية بالأمن القومي للدول ويُعنَى ببناء الدولة من الداخل و يدرس بجانب مدى تأثير عدم استقرار الاوضاع الامنية على السياسات التنموية  ، مدى تردي الاوضاع التنموية على الامن والاستقرار الداخلي ، و توجد العديد من المحاولات لتحديد ماذا  يعني الامن  ، كما يوجد جدل موسع بين  ما يسمى المدرسة الواقعية  و المدرسة  الليبرالية حول العلاقة بين الامن والتنمية.

واذا رجعنا الى ادبيات  الدراسات الامنية  نجد انه قد تطور الاهتمام بها بصورة علمية  وبوتيرة متسارعة بعد الحرب العالمية الثانية ومرت بأربع مراحل تاريخية بدءاً من المرحلة التقليدية الى التحولية فالمرحلة البديلة واخيراً المرحلة الشاملة  التي بدأت بوادرها مع صدور تقرير التنمية البشرية الصادر من البرنامج الانمائي للأمم المتحدة  الذي القى الضوء على امن البشر باعتبار ان الانسان هو اهم القيم الواجب الحفاظ عليها وتأمينها والدفاع عنها.  وبدأ العلماء يركزون على دراسة المتغيرات غير العسكرية واثارها في الدول مثل الفقر والتخلف والامراض والتغييرات البيئية والامن الشخصي …. الخ وجعلت تلك الدراسات من البشر المحور الاساسي للدراسات الامنية وليس الدول او الانظمة كما كان سائدا في المراحل الثلاثة الاولية من الدراسات الامنية –  خاصة في فترات السلم والاستقرار السياسي – ووفق تقرير التنمية البشرية الصادر من البرنامج الانمائي للأمم المتحدة  في عام 1949 فإن الجوانب المختلفة من الامن الانساني تشمل:

  • الامن الاقتصادي الذي  يعني بالحرية من الفقر.
  • الامن الغذائي الذي  يعني بالوصول الى الغذاء والحرية من الجوع .
  • الامن الصحي الذي يعني بالحصول على الرعاية الصحية والوقاية من الامراض.
  • الامن البيئي  الذي يعني بالحماية من التلوث ومن الاخطار البيئية المختلفة.
  • الامن الشخصي الذي  يعني بالحماية الجسدية للسكان من التعذيب ، الحرب ، الجريمة ، الاعتداء ، العنف المنزلي ….. الخ.
  • الامن المجتمعي الذي  يعني بضمان بقاء العادات والتقاليد والجماعات العرقية وتوفير الامان المادي لجميع المجموعات.
  • الامن السياسي الذي يعني بالتمتع بالحقوق السياسية والمدنية وحرية التعبير.

وبناء على ذلك خرجت العديد من الدراسات والمؤشرات الدولية التي سعت لتطبيق هذه الابعاد والعناصر لقياس الامن الانساني للدول ومدى الارتباط بين التنمية والاوضاع الامنية للدول فبجانب تقارير التنمية البشرية صدرت تقارير الدول الفاشلة وتقارير السلام والصراع وتقارير الصراع والامن والتنمية  وعلى المستوى العربي صدر تقرير التنمية الانسانية العربي وتقرير تحديات امن الانسان في البلدان العربية ، كما تم تطوير العديد من المؤشرات لقياس مدى متانة وثبوت الامن .

ومن المفيد هنا  الإشارة إلى أن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي يعرّف التنمية الاجتماعية بالبرامج التي تؤدي إلى “… توسيع الخيارات المتاحة للناس كي يعيشوا حياة كريمة. وأن النمو الاقتصادي مهم ولكنه ليس سوى وسيلة فقط لتوسيع هذه الخيارات. . ويعمل برنامج الأمم المتحدة من خلال أربعة محاور وهي الحد من الفقر وتحقيق الأهداف الإنمائية الألفية التي تم تجديدها مؤخراً و الحكم الديموقراطي ومنع الأزمات والانعاش الاقتصادي والبيئة والتنمية المستدامة.

بينما دعا المنتدى الإقليمي – “معالجة عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية: الحاجة الى نموذج تنموي جديد” – والذي نظمته شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية بالتعاون مع الجامعة العربية والاسكوا في يونيو 2014 إلى” … إعادة النظر في العقود الاجتماعية من خلال تعزيز الحوارات المجتمعية والسياسية التي يشارك فيها مختلف الأطراف المجتمعية الفاعلة مع التركيز على تحسين القدرات الإنتاجية الوطنية التي تتطلب بنية تجارية استثمارية ممكنة تساهم في خلق فرص العمل اللائق المستدام، وتعزيز العدالة الاجتماعية من سياسات إعادة توزيع الثروة، وتبني سياسات اجتماعية تضع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للناس في المقدمة. … وأن ركائز التنمية المقترحة الثلاث: الاقتصاد والبيئة والشؤون الاجتماعية غير كافية للتقدم بل المطلوب توسيع الرؤى لتشمل الحوكمة والجوانب الثقافية... “.

وبذلك يتضح أن التنمية الاجتماعية ليست مجرد عملية تقديم بعض الخدمات الاجتماعية فهي تتجاوز ذلك لتصل إلى تغيير البناء الاجتماعي القائم وإحلال بناء اجتماعي جديد قادر على مسايرة متطلبات العصر الحديث وقادر على إشباع حاجات ومطالب الأفراد بجانب أمنها.

في ظل عدم الاستقرار الاقتصادي الراهن وما تواجهه السياسات المالية من ضغوطات في الدول المصدرة للنفط الخام بالمنطقة، فإن أهمية التركيز على التنمية الاجتماعية تأتي في مقدمة الاولويات للمرحلة القادمة و ذلك لما تشكله من أهمية بالغة في تحقيق الأمن الاقتصادي والسياسي ، وعليه قررت الجمعية الاقتصادية العمانية تخصيص مؤتمرها السنوي لاستشراف منهجية العمل المطلوبة لتحقيق التنمية الاجتماعية المنشودة والإلقاء المزيد من الضوء على الموضوع وللإجابة على التساؤلات المطروحة من خلال دعوة الخبراء والمتخصصين والمهتمين من خارج وداخل السلطنة لمناقشة سياسات التنمية الاجتماعية وعلاقتها بالتنمية المستدامة والاستفادة من تجارب وخبرات الدول  من خلال المحاور التي حددتها للمؤتمر بما يخدم الأجيال القادمة. خاصة وأن الكثير من الدراسات تحذر بأن دول الخليج المصدرة للنفط تعاني من خلل اقتصادي وخلل اجتماعي مزمن عواقبه وخيمة على النمو والاستقرار ولا يمكن استدامته على المدى المنظور المتوسط والبعيد.  فالخلل الاقتصادي يتمثل في استمرار الاعتماد المتزايد على واردات النفط على الرغم من تبني سياسات وبرامج لتنويع قاعدة الإنتاج الاقتصادي منذ أكثر من أربعة عقود.  وفي كتابه الخليج بعد النفط قيم احد الباحثين الخليجيين المجتمع الخليجي بعد اكثر من نصف قرن على اكتشاف النفط بأنه لم يتمكن من بناء قاعدة معرفية وعلمية وتقنية تراكمية و لم يتمكن من تأهيل قوة عمل عالية المهارة ولم يتمكن  من بناء مجتمع منتظم سياسيا واداريا واجتماعيا و فشل في تحقيق تنمية مستدامة.

فمن الملاحظ أن المشاركات في المؤتمرات والندوات وحلقات البحث وإعداد الدراسات والخطط والاستراتيجيات الحكومية ، لم يصاحبها محاولات جادة لاستيعاب الدروس والدلالات للخروج من ظلمات النفق  وكانت نتيجة معظم تلك المشاركات مجرد الوجاهة والاستعراضات الدعائية وملء القاعات بما يسمى “أصحاب النفوذ” وليس الاستثمار المعرفي ، و لم يصاحبها الدعم الاداري والسياسي لتحويل المعارف التراكمية الى ممارسات عملية .

وفي الوقت ذاته ما زلنا نرسل الوفود الى مختلف الدول والانبهار بالنتائج والانجازات  من غير ادراك لحجم المجهودات والمبادرات والتضحيات التي تبذلها تلك الدول لإنجاح مشاريعها الوطنية ولا العقليات التي عُجنت لإنجاح تلك المشاريع ، تذهب وفودنا الى تلك الدول وتنبهر بها وتنحصر الاستفادة منها في استيراد السلع واقامة عناصر البنية التحتية والمنشآت التعليمية والصحية ذات الخدمات المتدنية ،  وشراء التقنية لخدمة الاقتصاد الريعي غير القادر على بناء المواطن المسلح بالكفاءة العلمية والمهنية والقادر على تحقيق التنمية وفي نهاية المطاف يتم التركيز على ما سيقدمه الخبير الاجنبي من معلبات جاهزة من نوع نسخ ولصق دون تحليل وظائفها وتبعاتها.

ما لم يتم التركيز عليه أن الانسان المواطن في تلك الدول هو أساس التقدم العلمي وقد تم عجنه قيميا واخلاقيا وتعليميا واقتصاديا  بدلا من استيراد جيوش العمالة الوافدة المتدنية المهارة التي شوهت سوق العمل وأن ذلك الانسان يملك الشجاعة لمحاكمة نفسه عند الفشل في مسؤولياته الوظيفية او ارتكاب الاخطاء ليفسح المجال لمن هو اكفأ منه ولا يبحث عن الاعذار والتبريرات للفاشلين ، كما أنه لا ينتظر  المشيئة الالاهية لإزاحته من مركز فساده.

ولقد توصل الباحث في دراسته بأن مسيرات الدول الناجحة في نهضتها اتسمت بتملكها لمشاريعها الوطنية التي هي هاجس يهم كل مواطن ولا تقبل ابدا ان تتنازل عن لغتها وثقافتها ولا تتساهل مع تراثها وهويتها. وفي الوقت ذاته فإن الارادة ومحفزات الطموح والالتزام حاضرة امامها ، كما أن استشراف تحديات المستقبل والمخاطر والاهداف النهائية واضحة ومحددة ببرامج زمنية مع وضوح الرؤية والاهداف والوسائل والسياسات وحشد الموارد والتحضير وفق اسس تربوية وتنظيمية واقتصادية  دون التباهي بالنفقات الاستعراضية والدعائية و دون اعطاء الاولوية للأنشطة الهامشية . فنجد مثلا عندما بدأت الثورة الصناعية في اليابان كانت خزينة الدولة منهكة ومحدودة الموارد ولم يكن بوسعها ابتعاث اكثر من اعداد محدودة للدراسة في الخارج  وكان يتم اختيار المبتعثين وفق خطط مبنية على اسس القابلية والكفاءة والجدارة والمهارة والقدرة والطموح كي يحصل الواحد منهم  على تعليم حقيقي يؤهله لتحمل المسؤولية والقيام بالواجبات وليس مجرد شهادات دون حصيلة معرفية ، و ما كان من الطلبة المبتعثين الا ان تكافل كل ثلاثة منهم باقتطاع جزء من مخصصاتهم الشهرية لتغطية ابتعاث طالب رابع ليستكمل دراسته على حسابهم  وكانت نظرتهم الى ما يمكن ان يقدموه لمجتمعهم قبل التفكير فيما يجب ان يقدمه مجتمعهم لهم.

في دولنا ما زلنا نجتهد ولم نتخذ قرارات حاسمة حول دور الحكومة ودور القطاع الخاص حيث ان التداخلات بينهما ما زالت عميقة وهل نحن دولة  يجب عليها ان تمارس سياسات رأسمالية او اشتراكية ومن الملاحظ من خلال متابعة أداء الوحدات الحكومية وجود رؤى وممارسات متناقضة تماما وبما لا ينسجم مع مرتكزات النظام الاساسي للدولة وهذا بحد ذاته يخلق بلبلة كبيرة في السوق ، وبالتالي من الضروري  تحديد الدور الرئيسي المنوط للدولة بالمحافظة على القانون والنظام وحماية وصيانة أراضيها ومكتسباتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ، والعمل على تناسق السياسات بين الوحدات الحكومية لبناء اقتصاد يعمل بكفاءة.

بجانب ذلك فإن منطقتنا تواجه الكثير من الاشكاليات الاقتصادية التي تختلف بطبيعتها عما هو عليه الوضع في الكثير من الدول الاخرى حيث أن نموذج الميزانيات العامة المتعارف عليه ، وكما هو الحال في العديد من الدول المتقدمة اقتصادياً كالولايات المتحدة والاتحاد الأوربي وكذلك الدول النامية الأخرى يتسم بوجود علاقة مباشرة بين الأداء الاقتصادي والإيرادات في الميزانية العامة.  كلما ارتفع معدل النمو الاقتصادي زادت الإيرادات العامة.  وبالمثل العلاقة بين المصروفات و الإيرادات العامة ، عندما تزداد مصروفات الدولة في الاقتصاد الوطني يخلق ذلك طلباً إضافيا يساهم في زيادة معدل النمو الاقتصادي ، و ينتج عن ذلك زيادة الدخل والذي يتحول جزءٌ منه إلى إيرادات إضافية في الميزانية العامة للدولة عبر آلية الضرائب والتي تقوم الدولة فيما بعد بإنفاقه لتتواصل الدورة الاقتصادية عبر ما يسمى بالمضاعف الاقتصادي Multiplier.

بينما يتمثل الاختلاف في نموذج الميزانيات العامة في دول مجلس التعاون الخليجي في أن جانب الإيرادات في الميزانيات العامة الخليجية يمثل متغيراً خارجياً Exogenous Variable يصعب تحديده لكونه يخضع لعوامل خارجية وخاصة فيما يتعلق بأسعار النفط.أما جانب المصروفات فيمثل متغيراً داخلياً Endogenous Variable تحدده سياسة الدولة فيما يتعلق بمقداره وتوزيعاته و معدلات نموه، وعليه يُمكن القول بأن الدول الخليجية لا تمتلك السيادة على صافي ميزانياتها العامة سواء كان فائضاً أو عجزاً.  وبالتالي يصعب على هذه الدول إمكانية التخطيط المستقبلي الدقيق بسبب عدم اليقين تجاه أسعار النفط.  و يصبح الوضع أكثر حرجاً عندما يرتبط الأمر بمعالجة الوضع العام للمديونية وطرق الحد منه على المدى المتوسط والطويل،  وضمن هذا السياق، يمكن القول بأن هذا النموذج يضعف من جدوى الخصخصة وخاصة في القطاعات الاستراتيجية مثل القطاعات النفطية والشركات الحكومية الكبرى والتي ستؤدي إلى حرمان الدولة من الأرباح وبالتالي إضعاف جانب الإيرادات في الميزانية العامة بدرجة كبيرة. ولا يمكن تطوير دور الدولة في المستقبل إلا بتقليص اعتمادها على إيرادات النفط الذي لا تتحكم في أسعاره من جهة والشراكة الحقيقية مع القطاع الخاص من جهة أخرى ، واعتماد النموذج الاقتصادي الذي يحول الإيرادات العامة إلى متغير داخلي يمكن التحكم فيه ويسمح للدولة أن تنفق وتخلق عجزاً في حالة تراجع الدورة الاقتصادية أن تستعيد استقرارها المالي و تحقق فائضاً عند عودة الانتعاش للاقتصاد الوطني من جديد.

وفق النموذج الحالي فإنه حتى في حالة افتراض ثبات سعر النفط  وليس انخفاضه كما هو الوضع الان ، فإن زيادة الإنفاق وخاصة الإنفاق الجاري، أو الإنفاق على الأنشطة غير المدرة للعوائد المجزية على المدى القريب أو المتوسط سيؤدي إلى الدخول في ما يسمى بفخ المديونية العام وخاصة ضمن ظروف تراجع معدل النمو الاقتصادي بأقل من معدل الفائدة على الاقتراض وخاصة الاقتراض الخارجي وبالتالي زيادة معدل نمو عجوزات الميزانيات العامة وتزايد نسبة الدين العام، مما يترتب على ذلك تحوله إلى عجز دائم لا يمكن التخلص منه إلا بالحصول على إيرادات إضافية جديدة أو تقليص في جانب النفقات التحويلية.

إن التحدي الاقتصادي لدولنا اليوم يتمثل في عدم معالجة خطورة الإشكالية بين زيادة الإنفاق الحكومي والسقوط في فخ المديونية العامة ، وطرح هذه الإشكالية لا يمثل بالضرورة الدعوة إلى تخلي الدولة عن دورها في استعادة النمو الاقتصادي عن طريق الإنفاق الحكومي ، كما انها ليست دعوة لتبني نظام الضرائب المباشرة.  ولكن محاولة للبحث عن آليات جديدة يشترك فيها المجتمع ككل في تمويل التنمية المستدامة. علما أن الفكر الاقتصادي ملئ بالخبرات والتجارب التي يمكن الاستفادة منها بما يفيد تنمية اقتصادنا وضمن خصوصية نموذجنا الاقتصادي.

كما ان التنمية الاقتصادية لا يمكن أن تقوم في غياب سوق عمل وسوق رأس مال ناضج وقوي ، حيث إنه  من المتعارف عليه ان قطاع سوق العمل و قطاع البنوك من  الدعامات الاساسية للاقتصاد الوطني والتي تلعب دوراً محورياً في التنمية باعتبارهما من أهم عوامل الإنتاج التي يقوم عليها الاقتصاد. في المرحلة السابقة عوضت قوة سوق رأس المال النسبية عن ضعف قطاع سوق العمل وتشوهاته ، ومع التحديات الجديدة الناجمة عن انخفاض اسعار النفط واثاره السلبية المحتملة على القطاع المصرفي من الضروري استباق الاحداث وتعديل بعض السياسات النقدية تجنباً للمخاطر التي ستترتب على ذلك فالاقتصاد لن يتحمل غياب الدور الفاعل للسوقين في وقت واحد.

ففيما يتعلق بسوق رأس المال ودور البنوك في التنمية الاقتصادية، فانه يلاحظ صغر حجم السوق المالي في السلطنة وقلة تنوع أدواته وضحالة عمقه على الرغم من تشريعاته الجيدة وتميزه بحسن التنظيم من خلال ميثاق حوكمة الشركات المساهمة العامة والذي يعتبر الافضل بين أسواق المنطقة. وبالنسبة لقطاع البنوك والتي تمثل الحجم الأكبر بين قطاعات سوق المال، فإنها لعبت دوراً محدوداً في التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الفترة الماضية من خلال توجيه الاتمان المصرفي نحو الجوانب الاستهلاكية للأفراد والخدمية للمؤسسات دون التركيز على القطاعات الإنتاجية التي تخدم التنمية الاقتصادية بشكل مباشر. وهذا التوجه لنشاط البنوك مرده لعاملين أساسيين وهما البيئة التشريعية المتشددة وغير المرنة والتي لا تركز على الدور المحوري للبنوك في التنمية الاقتصادية وضعف المنافسة في هذا القطاع مما نتج عنها قلة الكفاءة بين البنوك و تزايد الاعتماد على المالية العامة وخاصة فيما يتعلق بالودائع العامة في المصارف وضعف قدرتها على التكييف مع التقلبات الحادة في النشاط الاقتصادي الناتج عن الانخفاض الحاد في أسعار النفط بالأسواق العالمية كما هو الحال في الوقت الراهن. إن صغر حجم القطاع المالي مقارنة مع حجم النشاط الاقتصادي بالسلطنة وصغر حجم قطاع البنوك وقلة كفاءتها بالمقارنة مع مثيلاتها في المنطقة، ساهم بلا شك في ضياع فرص التنمية المنشودة ومحدودية القدرة على امتصاص الصدمات الخارجية. كل ذلك يدعو إلى أهمية مراجعة أداء السوق المالي و قطاع البنوك ورسم سياسات جديدة تهدف إلى تعزيز دورهما في تحقيق أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية بالسلطنة في المرحلة القادمة.

ومن ناحية أخرى ما يحتم ضرورة سرعة اصلاح سوق العمل الاوضاع الحالية المتمثلة في عدم قدرة الحكومة على استيعاب المزيد من الموظفين ، ومحدودية قدرة القطاع الخاص على توليد فرص عمل جديدة في ظل بيئة العمل الحالية ، لقد أدى نظام التعمين الحالي دوره ووصل الى مرحلة الجمود ولم يعد قادرًا على الاستدامة ولا تحقيق أهدافه فهو لم يتمكن من تحقيق أهدافه في السنوات العشر الماضية حيث انخفضت نسبة العمانيين العاملين في القطاع الخاص مقارنة بإجمالي العاملين في القطاع بسبب افتقاد النظام للمرونة في التعامل مع التغييرات التي تطرأ في السوق وتؤدي الى زيادة العمالة الوافدة ، ومن المؤكد كذلك أنه لن يكون بوسعه الصمود في السنوات المقبلة بسبب اعتماده على نسب غير واقعية والافتقار للمنهجية العلمية ، وأصبح العائق الرئيس امام توفير فرص عمل حقيقية وجديدة للمواطنين ، وامام نمو القطاع الخاص وبالتالي تحقيق أهداف التنمية الاجتماعية ، وهنالك حاجة ماسة لتغييره تغييرا جذريا بهدف توسيع القاعدة الانتاجية وإيجاد فرص عمل حقيقية للعمانيين الباحثين عن عمل والداخلين إلى سوق العمل لأول مرة خلال الفترة الممتدة بين الآن وسنة 2020 م

لقد توصل التقرير الاخير للتنافسية الذي صدر في الاسابيع الماضية بأن أكثر خمسة عوامل اشكالية في مختلف الأنشطة الاقتصادية في القضايا ذات العلاقة بالقدرة التنافسية وبيئة الأعمال في السلطنة والتي ساهمت في انخفاض ترتيب السلطنة في التنافسية وترتيبها حسب اهميتها تمثلت في تشريعات العمل المقيدة وعدم كفاءة الإدارة الحكومية البيروقراطية وضعف المستوى التعليمي للقوى العاملة وتدني مستوى أخلاقيات العمل لدى القوى العاملة وضعف القدرة على الابتكار وتلى ذلك مباشرة الفساد وعدم استقرار السياسات الحكومية والملاحظ ان العامل المشترك في هذه الاشكاليات تشوهات سوق العمل التي تتحمل مسؤوليتها اولا وأخيرا الحكومة بسبب ممارستها من خلال قانون وأنظمة العمل.

وأوكد هنا على ما اشرت اليه في قراءتي لتقرير التنافسية التي نشرت مؤخرا في الصحافة المحلية الى أن انخفاض ترتيب السلطنة في التنافسية  ليس سوى نتيجة غياب السياسات الاقتصادية السليمة التكاملية على مستوى السلطنة والى الهيكلية الحالية للجهاز الاداري للدولة التي لا تمكن الوحدات الحكومية من حسم الامور والخروج من الحلقة المفرغة وحيث تتعامل كل وحدة حكومية مع الاشكاليات بما يحقق اهدافها وكأنها جزر منعزلة دون مراعاتها لأهداف الوحدات الاخرى التي قد تكون متناقضة مع أهدافها، وأن الاستمرار في النمو الاقتصادي يتطلب إعادة هيكلة الأجهزة الادارية للحكومة ، ووضع معايير للحوكمة تشتمل قواعد واجراءات تمنح المسؤولين الادوات التي تمكنهم من انجاز رؤية الدولة واهدافها بجانب مساءلتهم.

ومن الوهم استناداً الى بيئة العمل الحالية أن نعول على القطاع الخاص القيام بدور هام وأساسي  والمساهمة في التنويع الاقتصادي وتوليد فرص عمل للمواطنين قبل تحقيق تلك التغييرات ورفع مستوى ثقته في الأداء الحكومي الذي تسبب في انحدار مستوى تنافسية السلطنة ، وذلك يتطلب معالجة ضعف منهجية التخطيط وتحسين مستوى الأداء الحكومي في الحوكمة والمساءلة وعدم تعطيل المعاملات في الاجهزة البيروقراطية للحكومة. 

للآسف فإن هذا الكلام ما زلنا نقوله ونردده منذ تأسيس الجمعية و نأمل أن نجد يوما ما آذاناً صاغيةً والبعد عن الاجتهادات والحلول غير ذات الصلة  بآليات عمل الاقتصاد، و ادراك أن معالجة الاشكاليات المتمثلة في ادارة الاقتصاد لا يمكن ان تتم إلا من خلال السياسات الاقتصادية فهي المفتاح لمعالجة تداعيات انخفاض اسعار النفط والعجز الحكومي وعلاج مشكلة الباحثين عن عمل وتقليص حجم العمالة الوافدة وتحقيق الامن الاجتماعي للسلطنة.

ختاما لا يسعنا إلا أن نرحب بضيوفنا الذين يشاركوننا في هذا المؤتمر وضيوفنا الاجلاء الذين تكبدوا مشقة السفر، كما نشكر شركاءنا في هذا المؤتمر من الجمعيات الاقتصادية الخليجية. والشكر كذلك للجهات الراعية للمؤتمر وإخواننا الإعلاميين. والشكر الخاص للأخوة الذين سيقدمون أوراق عمل هامة مرتبطة بمحاور المؤتمر.

 ضيوفنا الكرام ، سعداء بتواجدكم بيننا في عمان الأمن والخير والمحبة والسلام ونتطلع إلى الاستفادة من تجاربكم ورؤاكم حول تحديات السياسات الاجتماعية  ونأمل في أن يساهم هذا المؤتمر في طرح أفكار جديدة لتحديد جذور المشاكل والنظر في البدائل التي تتطلب تحقيق نمو اقتصادي مستدام ونتمنى أن تتكلل مساعينا بالتوفيق والنجاح.

وفي الختام لا يسعني إلا أن أذكر بأن الجمعية الاقتصادية العمانية لا يعمل بها أي موظف ولا تدفع أي أجور أو رواتب وجميع مهامها يقوم بها مجلس الإدارة والأعضاء الذين يقدمون خدماتهم على أساس تطوعي ولا يحقق لهم أي مردود مادي، ويسعون لممارسة نشاطهم بمهنية ومنهجية علمية وفي إطار أهداف الجمعية كشركاء فاعلين في التنمية الشاملة للبلاد ، وعليه اتقدم بجزيل الشكر والتقدير لزملائي من الجمعية الاقتصادية العمانية والمتطوعين على ما بذلوه من جهود لإنجاح أعمال هذا المؤتمر.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

Shopping Cart
Scroll to Top